ولما طال الحصار والمكث على أهل البهنسا اجتمع المسلمون عند خالد واستشاروه فيما يفعلونه وما يكون من الرأي فوثب عبد الرزاق الأنصاري وعبد الله بن مازن الداري وكعب بن نائل السلمي وأبو مسعود البدري وأبو سعيد البياضي وقالوا: يا قوم قد وهبنا أنفسنا لله عز وجل ولعل أن يكون للإسلام فرج فاصنعوا منجنيقًا واملؤوا غرائر قطنا وقالوا يأخذ كل واحد منا سيفه وحجفته ويدخل في غرارة قطن فإذا كان الليل ونامت الحراس فألقونا على أعلى السور واحدًا بعد واحد والمعونة من الله في فتح الباب كما فتحتم قصر الشمع بمصر ودير النحاس وكما فعلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاستصوبوا رأيهم فلما أصبحوا قطعوا الأخشاب وصنعوا منجنيقًا وصنعوا له حبالًا وأحضروا غرائر وملؤوها قطنًا والرجال داخلها وصبروا إلى الليل ودخل هؤلاء السادات رضي الله عنهم بعد أن ضربوا بالمنجنيق حجرًا بعد حجر فسقط على أعلى السور والبرج فشرعوا في رميهم منهم أبو مسعود البدري وعبد الرزاق إلى أن رموهم جميعهم وصاروا فوق أعلى السور ورتب خالد أصحابه على الأبواب وأما عبد الرزاق وأصحابه فلما صاروا بأعلى الجدار نزلوا إلى البرج فإذا هو مغلق والحراس نيام فنزلوا إلى الدهليز بين البابين فوجدوهما مغلقين موثقين فذبحوا البوابين عن أخرهم ووجدوا المفاتيح تحت رأس كبيرهم في جانب سريره فأخذوها وفتحوا الأبواب وإذا بالباب الثاني الذي ينتهي إلى القصر مسدود بالحجارة فاحتالوا على قلع حجر بعد حجر فقلعوها ورموا الأحجار وفتحوا الأبواب وكل ذلك في أقل من ساعة بمعونة الله عز وجل وصعدوا إلى البرج فعالجوه وفتحوه وقتلوا جماعة واستيقظ جماعة وثاروا عليهم وخافوا على الباب أن يؤخذ منهم وأن يحال بينهم وبينه وهو باب السور الذي بظاهر المدينة ففتحوه فصاحت الروم واستيقظ البطليوس وركب جواده وكان على حذر وركب المسلمون ودخلوا الباب وخرجت البطارقة والبطليوس من قصره وزحفت الروم إلى الباب وكان أول من قتل في ذلك اليوم عبد الرزاق وعنان بن مازن وكعب بن نائل السلمي بداخل الباب.
قال: ثم خرجت الروم وقاتلت قتالًا شديدًا وتواثبت جماعة من الأمراء مثل الزبير بن العوام وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى باب البحر واقتتلوا قتالًا شديدًا وتقدم عبد الرحمن والزبير إلى الباب والروم على أعلى السور ونزل عن جواده وصلى ركعتين والحجارة تتساقط عليه وهو لا ينزعج لذلك وتقدم هو والفضل وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى الباب وجعلوا السلاسل من فوق وصعدوا إلى أعلى إلبرج وهدموا الشرافات ووضعوا السيف في الحراس وفتحوا الباب ووثب شرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو ذر الغفاري وأبو أيوب الأنصاري إلى باب قندوس ووثب المسيب بن نجيبة الفزاري والقعقاع بن عمرو والأمير عياض بن غانم الأشعري إلى باب الجبل وفتحوا الأبواب واقتتلوا قتالًا شديدًا وقاتلت الروم قتال الموت إلى أن طلعت الشمس وارتفعت وقاتل عدو الله البطليوس قتالًا شديدًا وقتل رجالًا وجندل أبطالًا واقتتلوا في الأزقة والشوارع وبين الأبواب وتقدم خالد وهو يصيح: واثارات سليمان وطعنه طعنة صادقة في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وتبعهم المسلمون يقتلون وبأسرون وينهبون وقتل من الروم نحو ثلاثين ألفًا بوسط البلد وأسر منهم عشرون ألفًا وأنشد خالد يقول: وبالبهنسا الغرا أبيدت جيوشنا ثلاث سنين بابها ليس يفتح
ثماني آلاف عداد جيوشنا وكل همام عن ثمانين يرجح
فما فتحت إلا وقد صار جيشنا ثلاثة آلاف عداد تسحسح
ولم أر في أرض الصليب كمثلها ولا جيشها لما على السور يسرح
ولا مر لي يوم كمثل حروبها** لأن بها البطلوس ليث مبجح
وكان له جيش وعدة جيشه** ثمانون ألفًا بالحديد توشحوا
وكف غلبناهم ثمانين مرة** يخادعنا البطليوس عنهم فنصفح
ثلاث مرار نحن نفتح بابها **وترتد للكفر الذميم وتجنح
وقد تعب الهندي يوم فتوحها** وكلت أيادينا وفي الروم نذبح
إلى أن ملأنا البر والبحر منهم **وقد شبعت أسد الفلا وترنحو
ا وولت ثلاثون الألوف شواردًا** وعشرون ألفًا منهم قد تجرحوا
فمنهم قضى نحبًا ومنهم بها طغى** ومنهم أناس في المقابر روحوا
وبطلوسهم ذاك النهار قتلته **وقد كان مقدام الجيوش مرجح
فبادرته في الحال حتى تركته **صريعًا عليه الغانيات تنوح
وعاجلته في الرأس مني بضربة** فأضحى بها شطرين ملقى ومطرح
وعاد بسيف ابن الوليد مجندلًا **تمر به كل الحوادث تفلح
ولما فني بطلوسهم صار جمعهم **كما شبه أغنام وغاب المسرح
وقد كان في بحر الهياج مغلغلًا **تولى سرايا قومنا منه مرح
فلله ما أعداه قد كان فارسًا **يفوق على جيش عظيم ويرجح
وقد فرحت أكبادنا وترنمت **لعمرك والأكباد بالنصر تفرح
أقمنا بأرض البهنسا بعد فتحها **ثلاثين يومًا للمساجد نصلح
ورحنا فتحنا الهند والسند كله **وأسيافنا في الغمد لله تسبح
وفي كل أرض عسكر قد تركته** يقسمون دين الحق والحق يوضح
وهذا كلام ابن الوليد الذي جرى** فكن سامعًا معنى الذي لك أشرح
فما مثله في معمع الحرب سيد **ولا مثله في جوهر النظم أفصح
ومن بعد ذا صلوا على** أشرف الورى نبي له كل البرية تجنح
عليك سلام الله ما لاح بارق** وما غرد القمري إذ الصبح يطفح
وأصحابه والآل والعترة التي** أقاموا لدين الله والشرك زحزحوا
قال الراوي: وصار المسلمون يصعدون إلى البيت ويأخذون الرجال من بين حريمهم من الروم ويقتلونهم حتى كلت سواعدهم من الذبح وجرى الدم في الأزقة وصارت القتلى في الشوارع والأسواق مطروحين وخرجت إليهم النصارى والقبط وهم يبكون ويقولون: نحن أهل ذمتكم ونحن عوام وتجار وسوقة وكلنا مغلوبون على أمرنا وقتل خيارنا بأسيافكم وبقية الأمراء ويقولون هؤلاء قد صاروا رعيتنا وليس لهم بطش فتركوهم وقالوا بشرط أن تدلونا على من أخفى نفسه في المغاير والمخابي ومن فر من الباب الشرقي وغرق في الماء فدلوهم على الجميع ولم يزالوا يقتلون ذلك اليوم كله وفي اليوم الثاني استدعوا بنجارين يعملون عربات لحمل القتلى من المسلمين وأخذوا دواب أهل السواد من البقر تسحب العربات والفلاحون عملوا عليها وصاروا يضعون كل ثمانية وستة وعشرة في حفيرة ويردون عليهم الرمل حتى صاروا تلالًا وشهروا قبورهم ووضعوهم بدروعهم وثيابهم وعمائهم رضي الله عنهم وأخذوا ألواح رخام وكتبوا عليها أسماءهم وأنزلوها في مدافن قبورهم ورجعوا إلى قتلى أهل البلد فواراهم أهلهم في قبورهم وكان جملة من قتل من المسلمين في ذلك اليوم نحو أربعمائة وأزيد الأعيان منهم صاغر بن فرقد وعبد الله بن سعيد وعبد الله بن حرملة وعبد الله بن النعمان وعبد الرزاق الأنصاري وعبد الرحيم اللخمي وأبو حذيفة اليماني وأبو سلمة الثقفي وأبو زياد اليربوعي وأبو سليمان الداراني وابن أبي دجانة الأنصاري وأبو العلاء الحضرمي وأبو كلثوم الخزاعي وأبو مسعود الثقفي وهاشم بن نوفل القرشي وعمارة بن عبد الدار الزهري ومالك بن الحرث وأبو سراقة الجهني والبقية من أخلاط الناس وقتل عند سوق التمارين نحو عشرين ودفنوا هناك وعند سوق الصابون جماعة كثيرة وقريبًا من العطارين في جانب القبور نحو أربعين وقريبًا من البحر اليوسفي جماعة عند السور رضي الله عنهم.
قال الراوي: ولما وارى المسلمون شهداءهم صعدوا إلى قصر البطليوس وإلى قصور البطارقة ودورهم ومقاصيرهم فوجدوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يوصف ومن المتاع والحلي والحلل واللآلئ والنمارق والجواهر والبسط والوسائد والمساند واقتتلت الروم على بغلة محملة عند باب السر فغلبهم المسلمون عليها وأخذوها فإذا عليها صندوقان فيهما أحجار معادن فاشترى رجل من المسلمين من بيت المال حجرًا بستة آلاف دينار فباعه على غشوميته بمائة ألف دينار وأخذوا بساط البطليوس وكان مثل بساط كسرى سداه حرير وذهب مرضع بالمعادن فأرسلوه مع الخمس إلى المدينة فجعل لعلي بن أبي طالب فيما حصل له من البساط عشرون ألف دينار وغنمت المسلمون غنائم كثيرة من أواني الذهب والفضة وغير ذلك.
قال الراوي: حدثنا عون بن عبيدة عن عبد الحميد بن أبي أمية.
قال: هدم المسلمون القصر والكنيسة وتلك الدور وفتحوا خزائن البطليوس واستخرجوا جميع ما فيها من الذهب والفضة وغير ذلك ولم يتركوا فيها شيئًا أبدًا وقسم خالد الغنيمة بين المسلمين فكان للفارس عشرة آلاف مثقال من الذهب وألف أوقية من فضة ومن الثياب والملبوس وغير ذلك ما لا يوصف ولما دخلوا الكنيسة ورأوا تصاويرها وقناديلها الذهب والفضة والستور والحرير المنقوشة والأعمدة وغير ذلك تعجبوا وقرأ خالد
{ما اتخذ الله من ولد} [البقرة: 116]. الآية وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فصاح المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقرأ عياض الأشعري
{كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان: 25] إلى قوله:
{وأورثناها قومًا آخرين} [الدخان: 28]. وأخربوا تلك البيعة وجعلوا بجانبها مسجدًا على أعمدة من الرخام مسقوف عليها بتلك الأخشاب وهو الجامع الأول قبل بناء حسن بن صالح هذا الجامع الآن وبقية الأخشاب والحجارة جعلوا منها مساجد وربطًا.
قال الواقدي: حدثنا عبد الحميد عن قيس بن مهران عن أبي جعدة.
قال: بمدينة البهنسا من المساجد ما لا يعد وأخربت الصحابة تلك المعالم وبنوا دورًا لأنفسهم واختطوا بها أماكن وشوارع وأقام خالد ومن معه بمدينة البهنسا يصلحون المساجد والربط ويخرجون المعالم شهرًا كاملًا ثم أخرج الخمس وأرسله لعمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وهو نازل بمصر على قدر سهامهم وقال له: أرسل الخمس مع أبي نعيم الأنصاري والفضل بن فضالة وأبي دجانة إلى عمر بن الخطاب وهو بالمدينة فلما ورد الكتاب إلى عمرو بن العاص فرح بذلك فرحًا شديدًا ثم كتب عمرو لعمر كتابًا مع أبي نعيم صحبة كتاب خالد وسير معه ثلاثين صحابيًا حتى دخل المدينة ودخل على عمر بن الخطاب فوجد عنده جماعة وقد أخرج لهم قصعًا ومناسف من ثريد فلما رآنا عانقنا وتهلل وجهه فرحًا وجلسنا كلنا نأكل وهو قائم على رؤوسنا متكئ على عصا رسول الله فلما فرغنا من الأكل ناولته الكتابين فقرأهما وفرح فرحًا شديدًا ونادى في الناس الصلاة جامعة فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عليهم الكتابين واستدعى بالصحابة وقسم عليهم الغنيمة ولم يترك لأهله درهمًا ولا دينارًا ولا ثوبًا رضي الله عنه